حفظ الذكريات الجميلة بقلم الكاتبة / وفاء بنت إبراهيم باعشن

 من بعض ذكرياتي الأخيرة مع والدي رحمه الله، أنني كل يوم أحاول سؤال والدي تكراراً و مراراًَ إن كان لا يزال يتذكر إسمي، لأنني أعتبر ابنته المدللة، و التي ترعرعت بين أحضانه، و هو قد أخذ دور الأم و الأب في حياتي، و لكن يكرّر والدي نفس الجواب الموحّد كل مرة بقوله“لا أتذكرك…من أنتِ؟! ماذا أفعل هنا؟ الساعة كم الآن؟ “, و أنا أكرر معه نفس الأسئلة لتقييم حالته الصحية كل يوم، على أمل الحصول على أجوبة مختلفة منه يوماً ما، و يتم إحباط كل محاولاتي البائسة لتذكير والدي أنني ما زلت معه و أراه بطلي الخارق لصراعه مع مرض الزهايمر، و فقدانه التدريجي لذكريات عزيزة تجمعنا، و أصبحت أنا الوحيدة التي أذكرها، و هي ذكريات جميلة لا تقدر بثمن. و حينها، أصبح والدي في آخر فترة من عمره طفلي الكبير و المدلل، و أشكر الله أن لدي خبرة في التعامل مع عقليات الأطفال التي ساعدتني في اجتياز مراحل تدهور صحة والدي رحمه الله مع مرض النسيان. , لكن بعد تأمّلي اليومي لحالة مريض الزهايمر عن كثب، اكتشفت مدى روعة مرض الزهايمر! .. نعم إنها حقاً نعمة مخفية لأصحابها…

من وجهة نظري، لقد أخفق مرضى الزهايمر من تذكر أنفسهم و حياتهم و عائلاتهم، و قد تكون هذه الحالة هي أفضل و أرحم طريقة لتهيئة المقربين من المريض و إعطائهم فرص عديدة لتوديع أفضل الذكريات الجميلة مع مرضى الزهايمر، و بالإضافة إلى تدريبهم على كيفية التعايش مع تدهور صحة مريض الزهايمر، و احتمالية جيدة بالتدرج في الحزن و الفراق لكل عزيز مصاب بالمرض، و هو أفضل من موت الفجأة من تجربتي الشخصية، و لا يجوز نكران رحمة الله، و التلفظ بعبارات الجزع، و الشكوى عند الصراع مع هذا المرض.,فسبحان الله الرحمن الرحيم عند تدبرنا لآيات الرحمة هذه: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) , (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ) , ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) , ( مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فلا أنكر أن هناك لحظات عديدة أردت إرجاع كل ذكريات والدي الجميلة معي، لو أن هناك كبسة زر تم اختراعه لتلك الفترة، و لو عاد بي الزمن، لكنت شعرت أن هذه الأمنيات هي فقط طمعي في الاحتفاظ بوالدي مدى العمر، دون معرفتي إن كان المريض يريد تذكر ذكرياته الجميلة قبل رحيله من هذه الدنيا، و عندها سيزداد حزناً لمعرفته بموعد فراقه لأحبته.

و من خلال تأملاتي لمرضى الزهايمر، أعتقد أن الأشخاص الذين يعانون من مرض الزهايمر و الخرف، هم أشد الناس تعلّقاً بالحياة، و هذه رحمة لهم من الله لتركهم زينة الحياة الدنيا عن طريق نسيان أحبابهم من الأبناء، و الأحفاد و عدم تذكرهم للأشخاص الذين يتركونهم خلفهم أفضل لهم من موت الفاجعة التي قد تصدم كل عزيز.

و من فترة ليست ببعيدة، بدأ الملياردير الأميركي إيلون ماسك حديثه عن نجاح تجربة تهدف إلى التحكم في دماغ الإنسان، حيث سيستطيع البشر حفظ ذكرياتهم و استعادتها في أي وقت، و يمكن تنزيل الذكريات في جسم جديد أو في جسم إنسان آلي! , وقالت الشركة المتخصصة في علوم الأعصاب، أن الابتكار الجديد يهدف إلى زراعة وصلات لاسلكية بين الدماغ و الكمبيوتر تضم آلاف الأقطاب الكهربائية في أكثر عضو بشري تعقيدًا للمساعدة في علاج حالات عصبية مثل مرض الزهايمر و الخرف و إصابات الحبل الشوكي , كما تعهد بإتاحة التكنولوجيا الجديدة لأي شخص يريده و بأسعار معقولة.

فهل سيكون حق الاختيار لزراعة شريحة حفظ الذكريات الجميلة للمريض المصاب؟ و ذلك بعد اكتشافه أنه مصاب بمرض الزهايمر، . أم سيكون واقع لا مفر منه ؟..

 

عن afaf

شاهد أيضاً

لماذا نكتب ؟.. بقلم الكاتبة / وفاء بنت إبراهيم باعشن

  نحن نكتب لأن الله قد أقسم بالقلم و ما يسطرون , إذاً القلم لها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *