ها أنذا أكسر المرايا المقعرة والمحدبة، أكسر كل المرايا لأني لا أريد أن أرى التجاعيد في وجه العالم العربي، أريده شاباً يافعاً، قوياً، صلباً، لا أريده عجوزاً هرماً محدودب الظهر مقوساً، غائر العينين، فاقد الذاكرة.. عندما أكسر المرآة، أكسر الأيام السوداء والرمادية، وأبقي على البيضاء فقط، على الفتوحات والانتصارات، لأنني ما زلت متمسكة بكتاب الله، وبالإيمان بالله ثم بالإنسان، ولا أستغرب أنهم في الغرب يدافعون عن عالم الدببة والكلاب، ولكنني أستغرب كيف يخططون لموتنا، لهزيمتنا، لكسرنا، لتفريقنا بعقيدتهم، بأفكارهم، ببرامجهم، بمخدراتهم، بسمومهم.
ونحن نفتح لهم صدورنا العارية، وأيدينا، وعيوننا وأسماعنا، وأبصارنا مبتسمين راضين. لذلك كسرت جميع المرايا لئلا أرى ما أسمع عنه ولا تصدقه أذناي، وبدأت أكتب بألوان رمادية لأن الصدق في الكتابة أحياناً آخرته الدمار، فاستوحيتُ ألوان الخريف لأصف آهات نفسي، والشوارع والبيوت.
عشت الفقر، فما خجل الفقر من فقري، ورضيت بالحظ وقبلت به ولم أقم على عجل، فكان في كل مرة يصفعني الحظ على وجهي وعنقي وظهري وصدري، حتى تكاثرت الكدمات في كل المواضع التي صفعني عليها وحتى راحت تبدو علامات الترهل على رقبتي بكل فخرٍ واعتزاز. هل أنكر الجميل لهذا الدهر فأُصعِّر له خدي وأستدير بكعبي متجاهلة كل قساوته كما يتجاهلنا العالم المتمدن فلا يسمع شكوانا، ولا يريد أن يعرف أمانينا، ولا يريد أن يرى دمعة الحزن في مآقينا أو يلتفت لجروحنا، فهو غرب ونحن شرق، هو يأكل ويشرب ونحن نجوع ونعرى، هو يرقص رقصة الفرح ونحن علينا أن نرقص أرتالاً من رقصات الموت والفواجع؟، هل أنكر الجميل وأحرق دفاتر الشقاء والفقر، وأضع على رأسي منديلاً أنيقاً مقصَّباً وأتباهَى كاذبةً أنني وُلدت وفي فمي ملعقة من ذهب؟
لا وألف لا.. ولذلك كسرت جميع المرايا، كان والدي – رحمه الله – يقول: العلم.. العلم يا أبنائي، والاحترام.. الاحترام.. ولا تنسوا أن تخبئوا القرش الأبيض لليوم الأسود، ولا تنسوا القدس وعكا وحيفا والجليل الأعلى، ونهر النعامين وشجرة الزيتون. تمسكوا بسور عكا وتسلحوا بالإيمان بالعودة، كنا نحفظ توصياته عن ظهر قلب. وورثت عنه فضيلة التمسك بالله عز وجل، وبالعمل الجاد، وبالأناقة في كل شيء، والتواضع الجم، والثقة بالنفس.
كان والدي إذا أقرَّ أمراً يُطاع، وإذا تحدث أنصت إليه الجميع. وإذا دخل المجلس فله هيبته ووقاره، حتى الأزهار والرياحين وياسمين الدار كان يقف له احتراماً وإجلالاً.. لعظمته، ومكانته وعلمه، وثقافته، وحنكته، وأدبه، ورجولته، وذوقه، هكذا كان أبي، لذلك أحببت أن أجد رجال العالم في شخصه ولكني لم أجدهم، بحثت عن شخصه في كل مكان فوجدته في كتب الأدب ومسارح التاريخ العظيم وسور عكا، والمدرسة وقوافي الشعر، ومقاطع الأدب، وبتُ أستغربُ كيف عاش أبي، صبوراً على البأساء والضراء، صامداً في وجه الأعاصير، مؤمناً بحق العودة، وكيف أننا الآن لا نتحمل نظرة أو كلمة، أو جرحاً ولو بسيطاً. كان – رحمه الله – يحدثنا عن يوسف العظمة، وصلاح الدين، عن الأمجاد والبطولات العربية والفتوحات الإسلامية، كان يقرض الشعر مسترسلاً بالإنكليزية والعربية والألمانية والعبرية والفرنسية، وكانت قوافي الشعر تهابه.
وتنحني احتراماً لثقافته وعلمه وذوقه.. ونحن الآن نهاب القلم والقرطاس، ونهرب من الماشيت العريضة نختبئ بين ثنايا السطور. كانت نظرته ثاقبة، قوية ونحن الآن لا ننظر إلاّ لمستوى أنوفنا أو موطئ أقدامنا إن رأيناها هي الأخرى!!؟
مفارقات عجيبة ….كان يخطُّ الألوان على أحواض الورد بأشكالٍ هندسية رائعة وبألوان جذابة. وفي كل يوم يغير الألوان كيفما أراد وأحب، كان يعشق الورد والزنبق والقرنفل وياسمين الشام.. كان يعدهم وردةً وردةً قبل ذهابه لوزارة الصحة، ووزارة العدل، وكان يعدهم ثانية بعد عودته من العمل.. ونحن هنا نعشق القتل والضرب والدم والكذب والافتراء. ونقطع ولا نزرع…!!؟
شتان بين حبٍ وحبٍ، وعشقٍ وعشقٍ.. كان باب البيت لا يُغلق أبداً، وركوة القهوة لا تستريح على الإطلاق طوال الوقت ترقص فوق الجمر لتغازل شفاه الضيوف..
وأباريق الشاي جاهزة على الدوام للضيف يصاحبها حليب النستلة ونحن الآن بعده بالكاد نفتح أطراف أبوابنا قبل أن نسأل ألف مرة مَنْ الطارق؟؟ لأننا لا نحب الضيف، ونخشى من دخوله منازلنا، وإذا دخل نبقى ننظر في الساعة حتى يشعر بأنه غير مرغوب به فيستأذن للانصراف!!
شتان بيننا الآن وبين أبي… صدقوني.. أريد أن أجد مثل أبي، تُرى هل أجده، أم أنني أبحث عن المستحيل الذي لن ولن يعود؟
كان أبي – رحمه الله – يذبح الأعداء بقلمه، لأن قلمه كان سيفاً يقتل، والآن يذبحني الأعداء بسيوفهم وأقلامهم وأفكارهم وقنابلهم وصواريخهم وسهامهم وكلنا ينظر إلى بعضنا البعض ولا ننبس ببنت شفة، فالجميع يشهد ذبحي ويغمضون أعينهم دوني… وأنا أبتسمُ رغم الذبح، رغم الجراح رغم الأعاصير لأثبت للعالم أجمع أنني ورثت الصبر عن والدي والأخلاق عن والدي، والذود عن الحمى عن والدي. وورثنا جميعاً أشياءً كثيرةً عن والدي، ولكن أين أجد مثل والدي!!؟؟
كيف لي أن أنشر الجرح على ياسمين الشام، كيف لي أن أنشر الجرح فوق سور عكا، وزيتون حيفا، وليمون يافا؟، كيف لي أن أنشر الجرح على مآذن القدس، وكروم العنب في غزة وجنين؟
فبلادي العربية ضاقت بالجراح، فلن تحتمل جراحاتٍ أخرى وأنهار دم أخرى.. وبكاء أطفالٍ وعويل نساء وفقدان رجال.. فعالمنا العربي ضاق بأهله جراحاً وعويلاً ونواحاً.
لحظة دفء
أبي.. عندما ولد حبك في أعماقي
ورثت الأرضُ أرضاً جديدة
وسرى في الكون ريح الحياة
- وسيلة الحلبي :*سفيرة الإعلام العربي* عضو الإتحاد العام للصحفيين والكتاب الفلسطينيين* عضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب.